من أعظم ما إمتن الله به على عباده أن منحهم آلات العلم، وأدوات الإدراك، وأعظمها: العقل، ليتمكنوا بهذه المنح والهبات من التفكير والنظر والكشف عن أسرار هذا الكون، والوصول إلى المعرفة العقلية التي تدل على عظمة الخالق: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، والمؤمن مأمور بالتفكر في خلق الله إبتداءً من بداية الخلق إلى الآخرة.
قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، ودعا القرآن إلى التفكر بأساليب شتى وفي كل المجالات ما عدا التفكُّر في الله تعالى، إذ التفكر في ذاته سبحانه تبديد لطاقة العقل فيما لا يمكنه إدراكه.
وقد أسس الإسلام قواعد ثابتة في منهجية التفكير العلمي حتى دفعت بعض المفكرين إلى أن يعتبر التفكير فريضة في الإسلام، والمتأمِّل في نصوص الكتاب والسنة يجد إهتمام الإسلام بقضية التفكير والتفكُّر، ويتضح ذلك فيما يلي:
1= دعوة الإسلام إلى التفكُّر والتدبُّر في مظاهر الخلق والموجودات في الكون، ووضوح هذه الدعوة بصورة مكثفة، فقد ورد الأمر بالتدبُّر في الآيات الكونية في أكثر من سبعمائة وخمسين آية في حين أن آيات الأحكام الصريحة لا تزيد على مائة وخمسين آية، ووردت سورة خاصة ليس فيها إلا المباحث العقلية في حين لم نجد في القرآن سورة منفردة بذكر الأحكام.
2= أن التكليف بشرائع الإسلام متوقف على العقل المميز، فالتكليف مرفوع عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ.
3= أطلق القرآن حرية العقل، وحرره من الركود والجمود، ودعاه إلى التأمل والفهم والإستنباط، ورفض تقليد الآباء في أكثر من آية، وقدَّم تقليد الآباء كنموذجٍ للتقليد العاطفي الإنفعالي، وتحدث القرآن على لسانهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
ثم حاكمهم إلى عقولهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]، وفي آية أخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
وكذلك رفض تقليد المستضعفين للمستكبرين، ولم يقبل منهم إلغاء عقولهم رهبة من بطش الأقوياء وطغيان الأشداء، فقال تعالى: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21].
4= أن الإسلام رفع منزلة العلم والعلماء وأعلى من شأنهم وجعلهم في مصاف الأنبياء.
5= الإشادة بأولي النهى وأولي الألباب، الذين لا يرون في الوجود شيئاً إلا وكان لهم منه عبرة وتذكرة بالله ونعمه، وكأن الخطاب في القرآن الكريم دائماً يخاطبهم وحدهم، لأنهم هم الراسخون في العلم والذين يعرفون المحكم والمتشابه، وأسرار التشريع، وهم وحدهم الذين يحسنون قراءة القصص القرآني، ووصفهم بجملة من الفضائل، وجعل التفكير من عمل العقلاء منهم، الذين يتفكَّرون ويتذكَّرون في جميع أحوالهم، وفي المقابل وصف الكفار الذين عطلوا أدوات المعرفة عندهم بأنهم كالأنعام بل هم أضل.
6= التحذير من المنهج السلبي في التفكير الذي ينبني على الاستقراء والقياس الباطل، فقال سبحانه في نقد هذا الفكر: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ*فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ*ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ*ثُمَّ نَظَرَ*ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ*ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:18-23].
7= الحوار والمناقشات العقلية، والتنويع في الأساليب والجدل والمناظرة وضرب الأمثلة، وإستخدام الأسلوب القصصي والمحاكمات العقلية.
8= الإشادة بفاعلية العقل البشري في النظر والتدبر والتمييز بين الأضداد، كالحق والباطل، والخير والشر والقدرة، على الربط والتحليل والإستنتاج، للوصول إلى معرفة الله تعالى.
الكاتب: د.منى بنت إبراهيم التويجري.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.